يوسف نويهض مناضلًا.......

رجل شارك في قيام الدولة العربيّة بالشام

بقلم عادل بو زين الدين نويهض

   ساعة جاءني منعاك كنت طريح الفراش منذ أكثر من عامين، أعاني من بعض ما عانيت، وأقاسي من بعض ما قاسيت، وألاقي من الصعاب بعض ما لاقيت، فمنهم من حفظ الودّ وعلى آلام مرضنا صبر، ومنهم من نسي الودّ فغاب عنّا وما بان له أثر...أألومهم؟ لا...فتلك من سجايا البشر.

   وفيما أنا أستعيد شريط ذكرياتي عنك على امتداد نصف قرن من الزمان، توقّفت عند أول لقاء روحيّ بيننا في مطالع الثلاثينيّات، وأنت بعد طالب في جامعة السوربون، تناضل بصبر وعناد من أجل حرّيّة بلاد الشام ووحدتها...

   توقفت عند ذلك اللقاء... ثم نظرت في الكون على مقدار ما يستجلبه خاطري فرأيت شعبًا في بلاد الشام "سوريا الطبيعيّة" قد قامت له دولة، وأصبحت له في محيطه كلمة وصولة، ثم غلب على أمره، وسيطر الأجنبيّ على وطنه بحره وبره...

فهل ألقى المجاهدون المؤمنون سلاحهم والقلم، وهم الذين كانوا يردّدون: "ومن لم يذد عن حوضه يتهدّم"؟

لا، فسلاح المجاهدين ظلّ مشرّعًا يصول، ويجول، ومن أراد إيضاحًا وإفصاحًا عنه، فليسأل "جبل العرب" و"سلطانه"، ففي تاريخ الجبل وسيرة سلطان يجد الخبر اليقين.

   أمّا القلم – وكالسيف كان – فإليك قصّته مع يوسف نويهض، وهي كآلاف قصص القلم مع آلاف المناضلين المؤمنين الصادقين من أساتذة يوسف وأصحابه وتلامذته في دنيا العرب.

***

   في يوم الثامن من آذار (مارس) 1920 أذيع في دمشق ومن على شرفة البلديّة على الألوف من أبناء بلاد الشام، القرار التاريخيّ الذي اتّخذه المؤتمر السوريّ والقاضي بإعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعيّة (سوريا، لبنان، فلسطين،الأردن) والمناداة بفيصل بن الحسين ملكًا دستوريًّا عليها.

   ولكن شاء قدر هذه الأمة أن تكون دائمًا هدفًا للاستعمار، فما كادت الدولة العربيّة الأولى في تاريخنا الحديث تبلغ شهرها الخامس حتّى شنّ الفرنسيّون هجومًا كبيرًا عليها بدأ باشتباك في ميسلون (24 تموز 1920) مع القوّة العربيّة، فكان النصر، لسوء الحظ، حليفًا للقوّات الفرنسيّة التي كانت تفوقها بالعدد والعُدد والخبرة والنظام والقيادة .... ثمّ دخل الفرنسيّون دمشق، فانتهى حكم فيصل وانتهى معه عهد الدولة العربيّة الأولى.

   ومنذ قيام هذه الدولة حتّى منتصف الثلاثينيات، ظلّ المواطنون يحتفلون بذكرى قيامها رغم تسلّط الفرنسيين على مقدّرات جزأين منها (سوريا ولبنان) ورغم تسلّط الإنجليز على الجزأين الآخرين (فلسطين والأردن). وكانت تلك الاحتفالات تزعج الاستعمار وتقلقه، فحاول الفرنسيّون والإنجليز مرارًا منعها بالقوّة وبالتهديد والوعيد، ولكنّها كانت تقام رغم أنفه...

   وفي ذكراها الثالثة عشرة (8 آذار 1933) وفيما كانت بلاد الشام تحتفل بهذه الذكرى الخالدة ومحارب الاستعمار موجِّهة إلى صدور المحتفلين، كان الطلبة العرب في فرنسا يحتفلون بهذه المناسبة في جامعة السوربون في باريس تحت سمع الحكومة وبصرها....

   في بداية الحفل، بعد أن أنشد الطلبة نشيد: "بلاد العرب أوطاني ..." تلا عريف الحفل كلمة وجّهها الأمير "شكيب أرسلان" بهذه المناسبة إلى لجنة الاحتفال... ثم تكلّم عدد من الطلبة السوريّين والمغاربة فأشادوا بذلك اليوم التاريخيّ الذي أعاد لبلاد الشام وحدتها، وزاد في منعتها واختار لها قادتها لتكمل مسيرة الوحدة فتشمل شبه الجزيرة العربيّة وما جاورها...

   وكان بين الحضور عدد قليل من الطلبة اللبنانين المتفينقين المناوئين للحركة العربيّة، ويعتقد أنّهم كانوا "عيون" للأمن العامّ الفرنسيّ على المحتفلين، فما أن قال عريف الحفل: كلمة الطلبة العرب اللبنانيّين يلقيها يوسف نويهض حتّى هتف هؤلاء: تحيا فرنسا... فضاع هتافهم بين تصفيق الحضور ليوسف.

   كان يوسف نويهض مثل زملائه فخورًا بقيام الدولة العربيّة في بلاد الشام فأشاد بها في مطلع خطابه، ولكنّه فاق الزملاء والخطباء عندما خصّ الاستعمار الفرنسيّ بالنقد الصائب والعنيف، كما أجاد وأبدع عندما استشهد بأبيات من قصائد الشاعر القرويّ الوطنيّة.

   قال يوسف نويهض: يقولون لنا هنا في باريس إنّ فرنسا هي بلد النور وأمّ الحضارة، والمتحضّر، كما تعلمون، يكون كذلك حيثما كان ووجد. فأين حضارتها في الشام بعد الاحتلال؟

 تـعوج  بهـا فـلا تـلقى معاجـا     وقـد نسفـت معـالمها فجـاجـا

  لقد كانت حضارتها حضارة مدفع، وكان نورها نور القذائف.

  ويقولون لنا إنّ فرنسا بلد الحريّة والمساواة، قد يكون ذلك صحيحًا بالنسبة للفرنسيّين، ولكن هل ساوت بين الناس في بلاد الشام؟ وهل وجودها هناك رغم إرادة الشعب يعني الحرّيّة؟

 زعمـوا الشـام بحـاجــة لمـجـدّدٍ       نِـعم المـجَدَّدُ مـدفعُ  ومـسدَّسُ

   وممّا قاله يوسف نويهض بشجاعة نادرة لم تعهدها الجامعة من قبل، هو نعته لفرنسا بأنّها "دولة بربريّة معادية للعروبة وللدين الإسلاميّ"، ووصفه لقوّاتها في بلاد الشام بأنّها "طلائع الصليبيّة الجديدة للسيطرة على الشرق ولهدم حضارته".

   ثم تطرّق يوسف نويهض للأعمال الوحشيّة التي تقوم فرنسا بها في المغرب العربيّ وبريطانيا في فلسطين، وأنهى خطابه بكلمات وجّهها إلى الفرنسيّين: "لقد انتصرتم في معركة ميسلون وأسباب انتصاركم معروفة... ولكن لا تفرحوا بهذا النصر كثيرًا، فالدهر دوّار، يوم لنا ويوم علينا، ويومنا آتٍ بإذن الله تعالى.. وتذكّروا جيدًا ثورة جبل العرب".

***

   هذه صفحة مختصرة من تاريخ "يوسف نويهض"، مستقاة من رسالة مطوّلة وصلت إلى "بيت المقدس" من "باريس" في الخامس عشر من آذار 1933 مع ملخّص للكلمات التي ألقيت في الحفل إضافة إلى كلمة الأمير شكيب أرسلان.

   رحم الله "يوسف نويهض" وأسكنه فسيح جنانه مع الشهداء والصدّيقين.

                                                                  عادل نويهض